صدح بصوته الرخيم في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ولم يتجاوز الثامنة عشر من عمره , ومع مدخل التسعينيات كان مطرباً متكامل البنيان , ناضجاً وعميقاً في أدائه مميزاً وجاذباً للشباب و طلاب الجامعات , كان صوته الفخيم ضاجاً بالجمال و صارخاً بعنفوان الشباب في بصات وحافلات النقل العام و في مقاهي و كافيهات العاصمة المثلثة ومدن اقاليم السودان جميعها , مسيرته الفنية واجهت انتقادات من اعداء الحداثة فكانوا لا يرون في صوته ما رآه ابناء جيله والاجيال التي تلته من أسطورية المقام , مازلنا نذكر تلك (الالبومات) الاولى له و هي تزحم الاسواق و تقلب مؤشر المبيعات في (الاكشاك) و المكتبات رأساً على عقب , ذاع و انتشر صيته انتشار النار في الهشيم ,هام شباب السودان به عشقاً أبدياً لا ينتهي , كانت حفلاته بمثابة تظاهرات جماهيرية يتهيبها اهل السلطة و يرتعدون منها خوفاً بالرغم من انها تحدث عفويةً ولا علاقة لها بساس يسوس البتة , انه التلاقي و التداعي الحر و التلقائي لشعب تجمعه الكلمة الصادقة , محبوه كالسيل الجارف لا تستطيع الوقوف بوجههم , في خلال عقدين من الزمان استطاع هذا (الفلتة) ان يوحد شعب السودان على كلمة سواء , جمع بين الكبير والصغير , كلاهما يعتدل مزاجه عند سماعه صوت (الحوت) , لقد نسف القاعدة التي تقول ان هنالك فوارق بين الاجيال في تلقيها للكلمة المموسقة , أفشل هذه القاعدة بوضعه لجيل الاستقلال مع جيل (السيستم) في مزاج واحد عندما يستمعون إلى اغنية (لهيب الشوق).
من اهم ميزات هذا الهرم الشامخ التواضع و التواصل مع الصغير و الكبير و الحرص على مشاركة شباب الحارة (صحن البوش) و (تخميسة) السيجارة في تركينة عمود الكهرباء مع (اللستك) امام البقالات و(الدكاكين) , انها ملامح بسيطة لكنها عميقة في ثقافة الشارع السوداني , الكثير من مفردات اغنياته ممزوجة بعبق ساحات الحارات و الاحياء الشعبية ابتداءً من قصص الحب و الغرام وانتهاءً بتوقير واحترام الكبار من الحبوبات و الامهات وقد جسّد ذلك في رائعته (ما تشيلي هم) ,اما الاطفال فكان لهم في وجدانه مكانة عظيمة فهو من المساهمين في صناعة دنياهم الجميلة منذ ان كان مبدعاً يافعاً في برنامج (جنة الاطفال) , فالحوت هدية الله للشعب الكادح المكلوم , حرق دمه و انهك جسده النحيل كي يشفي غليل شعب ما كان يجب ان يعيش الأسى وهو يملك كل مقومات الجمال و الرفاه و العيش الكريم , فمحمود بمثابة المنصة التي تتلقى اللكمات و الضربات اليومية التي يعانيها شيب و شباب السودان , حياته كلها تضحية من اجل التنفيس عن هذا المجتمع الكريم , انفعالاته هي انفعالاتنا و بكائه عبر صيحاته الثائرة هو انعكاس لما تحمله قلوبنا من اثقال ظلم ذوي القربى.
محمود عبد العزيز أحدث إنقلاباً كبيراً في مسيرة الاغنية السودانية ,برهن على عدم صحة مسلمات كثيرة يتداولها الناس على شاكلة ( سمح الغناء من خشم سيده) , فعندما تلقي السمع الى رائعة صلاح مصطفى (بعد الغياب) التي قدمها الحوت في ثوب زاهي في التسجيل الشهير لسهرة قناة الشروق من الصعوبة بمكان ان تتذوقها مرة اخرى من صلاح , مازالت هذه الاغنية تسجل الاف (الكلكات) في (اليوتيوب) , وغيرها من أعمال (فطاحلة) الطرب السوداني التي أجادها الحوت أيما إجادة و صبغها بنكهة صوته الخرافي , كان مسرحاً للبهجة والذوق الرفيع وهو يقف وقفته الممشوقة و يهز رأسه مع ايقاع (عمري) اهتزازته المعهودة , والفانلة ذات الأكمام الطويلة المسدلة دون مبالاة واضحة للعيان كانت ترجمة لتمرد جيل بأكمله عاش مكبوتاً حين من الدهر , تكاملت كاريزما (حوته) عبر انفعالاته الانسانية مع تحديات شعبه بكل شرائحه وبالاخص ذوي الاحتياجات الخاصة اللذين من فرط حبه لهم وحبهم له جعلوا شعار أنصاره (الحواته) عصوان متقاطعتان في شكل (إكس) انعكاساً لمخزون الانسانية الهائل الذي يحمله هذا الفتى .
القبول منّة من الله , ففي فترات وجيزة بحسابات الزمن احتل محمود قلوب الملايين من ابناء وطنه , وذلك لان روحه تجردت من النفاق و الرياء ولبس القشور من اقمشة الدنيا الزائفة , لم تكن هنالك حدود فاصلة بين حياته الشخصية و حياته العامة , وتلك كانت درجة من التسامي الاخلاقي لا يعرفها الا المتصوفة و الزاهدين , فصار فرداً من اسرة كل واحد منا , دخل بيوتنا دون استئذان واستقبلناه برضا و حب وعشق لا يخفى علينا جميعا , لقد وهب نفسه للناس بخيرها الوفير وشرها القليل , انها لدرجة عالية من الرقي الروحي ان يتساوى عندك الخاص مع العام , وهذا ما يطلق عليه فلاسفة العصر (الشفافية) , فالروح بطبعها شفّافة بعكس البدن الذي يمثل المادة وما بها من عتمة وعبء , لكل ذلك ما زالت روحه تحلق حولنا وما زال صوته حاضراً في افراحنا واتراحنا.
ان كان ثمة استفتاء حقيقي غير مزوّر شهد له الجميع دون الحاجة الى لجان رقابة و افراد أمن, فهو ذلك اليوم الذي هبطت فيه الطائرة التي حملت جثمانه على ارض مطار الخرطوم , في ذلك اليوم انهارت الاسوار و تكسرت الابواب و (الشبابيك) من هيجاء عاصفة مريدي الحوت وهم يتخطون كل الحواجز للوصول الى النعش والامساك به , كان استفتاءً جماهيرياً وحدثاً تاريخياً شبيهاً بتظاهرة استقبال الثائرالجيفاري جون قرنق ديمابيور في الساحة الخضراء, ابن حي المزاد – بحري وضع بصمته في سفر التاريخ بوصوله الى وجداننا الجمعي عبر حروفه المنسابة شعراً ولحناً موسيقياً متفرداً , فعندما تغنى ب(مدينة جوبا) كان جنوبياً في كل حركاته وسكناته , اما ادائه لاغنية (التوية) مع ايقاع المردوم جعلتنا نحن ابناء تلك البيئة لا نصدق من يقول لنا ان الحوت ليس من اهل مدينة (بابنوسة) , لقد عانق محمود جبال التاكا شرقاً و نخيل الباوقة شمالاً و لم يبخل على فسيفساء جغرافيا و انثربولوجيا الوطن , فطرح مشروعاً انسانياً قومياً جامعاً قوامه التواضع و حب الناس.
اللهم اغفر له وارحمة و اجعل قبره روضة من رياض الجنة
.. اسماعيل عبد الله..